هذه أيام عراقية عسيرة بلا شك. فمع بدء انتشار فيروس كورونا في البلد وضعف الرد الحكومي عليه في دولة مؤسساتها مهلهلة أصلاً، خصوصاً الصحية منها، أخذت أسعار النفط في السوق العالمي تتراجع على نحو سريع يهدد الاقتصاد العراقي الذي يعتمد على مبيعات النفط كمصدر رئيسي للدخل لتسيير عجلة الدولة التي تشكل هذه المبيعات نحو 90 بالمئة من ميزانيتها.
منذ عام 2003 الذي شهد نهاية نظام صدام حسين بنهجه المركزي وأيديولوجيته الاشتراكية في إدارة الاقتصاد، توفرت فرصة نادرة للدولة العراقية الجديدة لإحداث تغيير جذري في بنية الاقتصاد وكيفية إدارته على نحو يحرره من قيود الدولة الكثيرة وقطاعها العام العاجز.
إنه التغيير الذي يقود إلى نمو حقيقي في القطاع الخاص واجتذاب جدي للاستثمارات الأجنبية وتنويع كبير في مصادر الدخل من أجل تقليل الاعتماد على عوائد النفط، كما فعلت ذلك بنجاح دول خليجية.
كانت أحداث مثل هذا التغيير الضروري يبدو أمراً بديهياً في بلد خرج لتوه من تجربة دكتاتورية مريرة وقاسية عانى شعبه فيها الكثير من الفقر والحرمان في ظل المركزية الشديدة للسياسة والاقتصاد التي طبعت حكم الدكتاتور فيه.
تحرير الاقتصاد وتأهيله وتنويعه لم يكن ضرورة اقتصادية فحسب، بل ضرورة سياسية أيضاً، لأن مثل هذا التحرير يمنع احتمالات عودة الدكتاتورية ويسهم في ترسيخ الديمقراطية. فالحكمة السائدة والصحيحة بهذا الصدد هو أن احتكار الدولة للموارد، خصوصاً الطبيعية منها كالنفط، يسمح ببروز الدكتاتورية التي تُمكن الدولة من شراء ولاء المجتمع وضمان سكوته عبر استخدام موارد الريع النفطي في توفير فرص عمل مزيفة وغير منتجة في القطاع العام، أو ما يسمونه في الاقتصاد بالبطالة المقنعة، كما حصل في العراق.
تحرير الاقتصاد في مثل هذه السياقات يعني أيضاً السماح للطاقات الإنسانية للأفراد في المجتمع أن تبدع في مجالات الاقتصاد والمعرفة والاكتشاف المختلفة كي يصنع المجتمع، وليس الدولة، الثروة ويتابع طرق إنفاقها في الحيز العام. على هذا النحو يستقل المجتمع اقتصادياً عن الدولة ولا يصبح تابعاً لها، بل رقيباً عليها يستطيع الاعتراض على سياساتها الخاطئة وداعماً لها في سياساتها الصحيحة التي تعزز هذا الاستقلال وتعمقه وتنظمه قانونياً كي تمنعه من الانزلاق نحو الاستغلال والاحتكار والجشع الذي يضر بالطبقات الأضعف في المجتمع.
ما حصل في العراق بعد 2003 كان العكس بالضبط، فبدلاً من تحرير السياسة والاقتصاد معاً من هيمنة الروح المركزية القامعة وصولاً إلى تجربة ديمقراطية حقيقية يتعاون فيها المجتمع مع الدولة في صناعة خيارات سياسية واقتصادية عقلانية تخدم الصالح العام، جرى "تحرير" السياسة فقط على نحو مبالغ فيه كثيراً إلى حد التفتيت الشديد لسلطة صناعة القرار عبر آليات المحاصصة والتوافق والتقاسم الحزبي للسلطة ومواردها.
وبالمقابل تواصلت الروح المركزية في إدارة الاقتصاد، فساسة الدولة الجديدة بعد 2003 كما ساسة الدولة قبل 2003، واصلوا الهيمنة على اقتصاد لا يزال مركزياً عبر سيطرتهم على موارد الريع النفطي الهائلة. أقصى "التحرير" الذي جرى بعد 2003 هو التقاسم السلطوي للريع النفطي بين بغداد وأربيل لمصلحة نخب سياسية حزبية عربية وكردية تستخدم هذا الريع لترسيخ سلطتها السياسية وهيمنتها الاقتصادية على المجتمع، بدلاً من تحرير هذا الأخير من احتكار الدولة للموارد وإطلاق طاقاته في بناء اقتصاد متنوع ومنتج.
وفي ظل هذا التشويه البنيوي للسياسة والاقتصاد والعلاقة بينهما في عراق ما بعد 2003، أصبحت الدولة، بتفكك سلطة القرار فيها، عاجزة عن إنتاج سياسات إصلاحية جدية وتطبيقها، فيما ظل المجتمع عاجزاً عن تحقيق الاستقلال الاقتصادي عن الدولة المفككة أصلاً التي تستمد مصدر قوتها الوحيد من الريع النفطي الذي يحتكره الفرقاء-المتحالفون المهيمنون عليها.
وحجر الزاوية في استمرار هذا الترتيب المشوه الذي يعيد إنتاج نفسه هو الريع النفطي وضمان تدفقه في الخزائن الحكومية والحزبية. بالتالي يشكل انهيار أسعار النفط في السوق العالمية تهديداً جدياً لهذا الترتيب، يمكن أن يطيحه إذا استمر هذا الانخفاض فترة طويلة.
وتبدو المقولة العراقية الغاضبة التي تتردد كثيراً أن النفط لعنة وليس نعمة صحيحة تماماً في السياق العراقي. بخلاف التمنيات المتفائلة، لم يؤدِّ بروز وازدياد الريع النفطي في تاريخ الدولة العراقية إلى إصلاح الاقتصاد والسياسة، بل بالعكس إلى تخريب الاثنين سويةً بسبب هشاشة مؤسسات الدولة تاريخياً في البلد وهيمنة الرغبات الشخصية لزعماء أقوياء على إرادة المؤسسات (بدءاً من نوري سعيد وليس انتهاء بنوري المالكي).
ومنذ اتفاقية مناصفة الأرباح في 1952 التي عقدها العراق مع شركة نفط العراق البريطانية صاحبة احتكار استخراج وتصدير النفط العراقي، ازدادت على نحو مضطرد وكبير مساهمة الريع النفطي في الميزانية العامة لتتجاوز النصف بسرعة في منتصف الخمسينيات مقابل تراجع مضطرد أيضاً لمساهمة قطاعات أخرى منتجة كالزراعة والصناعة والتجارة والضرائب.
وعلى امتداد الستينيات والسبعينيات، وبسبب سياسات اقتصادية خاطئة، تصاعدت هيمنة الريع النفطي على الميزانية ليشكل هذا الريع معظم هذه الميزانية (أكثر من 90 بالمئة).
ورافق صعود الريع النفطي بروز وترسخ الروح الدكتاتورية في السياسة، بدءاً من الخمسينيات في العراق الملكي وصولاً إلى العراق الجمهوري المحكوم بقبضة أمنية صارمة في العهد البعثي، إذ تحررت الدولة، بسبب وفرة الريع النفطي في خزائنها، من حاجتها للمجتمع لإنتاج الثروة وأصبحت في موضع تستطيع فيه رشوة المجتمع وشراء ولائه عبر العطايا والمنح والوظائف. واصلت دولة ما بعد 2003 هذا التقليد السيئ لكن بلباس ديموقراطي مهلهل.
استمرار الاعتماد على عوائد الريع النفطي مستحيل على المدى البعيد بسبب عدم قدرة هذا الريع على استيعاب الحاجات المتنوعة لعدد سكان يزداد باستمرار والتراجع التدريجي لأهمية النفط الشرق أوسطي في السوق العالمية في ظل بروز منافسين جدد في إنتاجه وحقيقة نضوب النفط على المدى البعيد، فضلاً عن اكتشاف بدائل جديدة للطاقة.
والعراق لم يستعد لمثل هذه الاحتمالات الجدية، فمثل معظم الأشياء في البلد، الصدمات المفاجئة هي التي تحرك السياسة والدولة وليس التخطيط والمبادرة المبنية على استقراء عقلاني للوقائع المقبلة.
من هنا يبدو انخفاض أسعار النفط، إذا تواصل طويلاً، فرصة إصلاحية نادرة وقسرية وليس مناسبة للتشكي والقلق. إنه فرصة لإجبار ساسة الدولة العراقية على القيام بإصلاحات عميقة، قاسية ومؤلمة، لكنها ضرورية إذا كان لا بد لهذه الدولة أن تستمر.
مثل هذه الإصلاحات ستعني بالضرورة قصقصة أجنحة الإقطاع الحزبي بكل الفساد المترتب عليه وتحرير الاقتصاد من هيمنة الدولة وإعادة الاعتبار للمجتمع كصانع للثروة والمعنى وكرقيب على الدولة ومؤسساتها. لن يتوصل ساسة هذه الدولة إلى قناعات صحيحة كهذه عبر الاكتشاف الذهني والفضول المعرفي المستقلين، بل سيُجبرون عليها بقسوة الوقائع التي ستضعهم أمام خيارات مريرة بينها انهيار الدولة بسبب عجزها عن الإيفاء بالتزاماتها المالية الأساسية وغضب هائل لمجتمع اعتاد على تزويد الدولة له بالموارد ولا يستطيع أن يتكيف مع انقطاعها المفاجئ.
لم تفلح مناشدات إقليمية ودولية، مناشدات حلفاء وأصدقاء، في إقناع ساسة هذه الدولة على القيام بالإصلاحات الضرورية، السياسية والاقتصادية، كما لم تقنع هؤلاء الساسة بضرورة هذه الإصلاحات حركةُ احتجاج عراقية واسعة على مدى خمسة أشهر. قد يستطيع الانخفاض الكبير لأسعار النفط، بما يعنيه من نفاد موارد الريع النفطي، إقناعَ ساسة العراق بتبني درب الإصلاح أخيراً.
من المبكر الآن القول إن خيار الإصلاح سينتصر إذا عادت أسعار النفط للارتفاع في غضون أسابيع أو أشهر، فسرعان ما ستعود "حليمة إلى عادتها القديمة". يحتاج العراق إلى صدمة نفطية كبرى ينخفض خلالها الريع النفطي على مدى سنوات طويلة تضع الدولة والمجتمع أمام تحدٍ وجودي هائل، لكنه مفيد أيضاً. فالواضح لحد الآن، لسوء الحظ، هو أن "الكي هو آخر الدواء" في العراق.